هجر التداوي
وقومٌ هجروا التداوي به، وقالوا إنها من الخزعبلات أن يقرأ القرآن على المريض أو المصروع، وكيف يستشفى بالقرآن؟ وكيف يتداوى بالقرآن؟ وهؤلاء خالفوا العقل والنقل، فأما النقل فدلت النصوص على أنه يتداوى به، ويستشفى به، وأما العقل فإنه يؤمن بالأسباب.
ومن ضمن أسباب إنعاش الروح وإسعادها القرآن، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستشفي بالقرآن، ويقرأه عليه صلى الله عليه وسلم، لما سحره اليهودي، قرأ المعوذتين فشفاه الله، وإذا أراد أن ينام نفث على جسمه الطاهر صلى الله عليه وسلم، وقرأ بالمعوذات، بل رقى صريعاً صرع بالجن، ونحن على ذكر هذه المسألة، أحب أن أذكر لكم، أن من عقيدة أهل الإسلام وجود الجن، ومن أنكر وجود الجن في الدنيا فقد كفر؛ لأن الله ذكرهم في الكتاب والسنة، وأما تلبسهم بالآدمي فإنهم يتلبسون به، وإن الجنية تتلبس بالإنسي، وكذلك الجني يتلبس بالإنسي، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ [البقرة:275] والذي يتخبطه الشيطان من المس هو المصروع! وقال عز من قائل: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128].
قال ابن تيمية : والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف:
قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس. وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة، فهؤلاء يكذبون بالموجود وهم لا يعصون بل يكفرون بالمعبود, والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود ونؤمن بالإله الواحد المعبود، وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه تدفع شياطين الإنس والجن.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أُتي بصريع، فقرأ عليه، وقال: اخسأ عدو الله أنا رسول الله، اخسأ عدو الله أنا رسول الله حتى أخرجه } والذين ينكرون ذلك قد خالفوا النقل والعقل، فإنا نسمع وتسمعون من حديث هذه الجنية على لسان الإنسي صوتاً يخالف صوته، وحديثاً يخالف حديثه، فهي تتكلم بصوت المرأة على لسانه، وهذه ليست مسألتنا، إنما المسألة كيف يتداوى بالقرآن؟
كيفية التداوي بالقرآن
والناس في هذه ثلاثة أقسام:
قومٌ جعلوا القرآن دائماً في كل أمر، ولم يجعلوه للتداوي فحسب، من باب تعليق التمائم، ومن باب حضوره في المآتم، وفي المناسبات، وقراءته على القبور، كغلاة الصوفية فهؤلاء لا حظ لهم، وقد أخطئوا في ذلك، والصحيح أن القرآن سببٌ من الأسباب، يقرأ به فيما ورد، لا يعلق تميمة، ولا يعتقد أنه بنفسه ينفع أو يضر، فهؤلاء جعلوا القرآن مهمتهم في الحياة، أن تكون قراءته في المآتم، أو في الأعراس، أو في المناسبات، أو على القبور، فإذا أتى تحكيمه في دنيا الواقع في الحكومات القائمة، في الاقتصاد، في السياسة، في تدبير أمور الأمة، وفي الأدب والفن، أعرضوا عنه وتركوه، وقالوا: هذا شيء، وتلك شيء، وقابلهم قومٌ آخر متطرفون، فقالوا: القرآن لا يستشفى به، ولا يتداوى به وهو من باب الطلاسم، ومن باب التنجيم والكهانة، فهؤلاء أخطئوا كذلك.
وتوسط قوم فقالوا: مهمة القرآن هداية البشرية أولاً، يحكم به الحاكم في الأمة، في اقتصادها وجيشها، وسياستها وعلاقتها في كل ما يمت إلى الحياة بصلة، فهو دستور الحياة، وقائدٌ إلى الآخرة، ومحكمٌ إلى القلوب، وموجهٌ إلى الأرواح، ثم كذلك يتشافى به بما ورد.
هجر التحكيم
وهو أكثر ما ضربت به الأمة الإسلامية -إلا من رحم الله- لما زعزع كرسي الخلافة، فهؤلاء جعلوه لا يدخل في تحكيمهم؛ فما حكموه ولا تحاكموا إليه، ولا نفذوا حدوده، وإنما استبدلوا بقوانين البشر، كقوانين هتلر وتعليمات نابليون ، فهؤلاء يحشرون يوم القيامة عمياً بكماً صماً، مأواهم جهنم وساءت مصيراً.
بل لا حياة للناس إلا بالقرآن. قال ابن القيم رحمه الله: إذا عطلت تحكيم القرآن في الحياة، أوحشت القلوب، وأقفرت الديار، وجدبت المنازل، وأنزل الله على الناس اللعنة، وقست القلوب واختلفت. لذلك قال الإمام أحمد يصف أهل البدع: لا يتحاكمون إلى القرآن، مجتمعون على ترك القرآن، مختلفون في القرآن، نبذوا القرآن. فكل من نبذ القرآن وظن أنه لا يتحاكم إليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، يفضحه على رءوس الأشهاد، ويزلزله ويمحقه، ويقطع دابره يوم يقطع الله دابر الذين ظلموا.
دعوة لإحياء القرآن
عباد الله: فلا يصدنكم صادٍ عن كتاب الله، أحيوه في منازلكم وأسركم، وبيوتكم وفصولكم وسياراتكم، أحيوا هذا الكتاب؛ لتسعدوا، ولينصرنا الله، وليديم الله علينا الأمن والاستقرار والأمان، ولئلا يغضب الله علينا فيزلزلنا كما زلزل غيرنا، ويمحقنا كما محق غيرنا، فإن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين.
ومن أكبر ما يعارض القرآن، الأغاني الخليعة الماجنة التي أغوت شبابنا فجعلتهم شباباً مائعين ضائعين، منسلخين تائهين، يكبر أحدهم فإذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره، أخذ العود فطنطن به أربعاً وعشرين ساعة، فنسي مهمته ومستقبله، ونسي مصيره إلى الله، ونسي مكانته من العالم، ثم أتى أمثاله وأضرابه فسموه الشاب الصاعد، وهو نازلٌ، لأن الذي يصعد هو الذي يكرم نفسه بالسجود لله، والذي يصعد هو الذي يحمل في قلبه لا إله إلا الله، والذي يصعد هو الذي يتشرف بعبودية الله، والذي يصعد هو الذي ينقي نفسه من معصية الله:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكُدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
أما هؤلاء فهابطون نازلون منحدرون، كفقير اليهود لا دنيا ولا آخرة، تشرفوا بالغناء، وعشقوه فأعرضوا عن كتاب الله، والبيوت التي يدندن فيه الغناء لا يحل فيها القرآن؛ القرآن أشرف من أن يمتهن، وأعظم من أن يتبذل، وأجل من أن يسخر به ويستهزأ: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [الأنعام:155] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدمِ
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
أتى على سفر التوراة فانهدمت فلم يفدها زمان السبق والقدم
ولم تقم منه للإنجيل قائمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم
فعودةً يا أمة الإسلام إلى الله! وعودةً يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ! يا أحفاد فاتحي الدنيا ومعلمي الإنسانية! يا أحفاد من رفعوا رأس الإنسان، وكان على الأوثان يطبل ويزمر، ومع الشياطين يعشعش ويعيش.
أقولُ ما تسمعون وأدعوكم للصلاة والسلام على رسول الله، فإن الله قال في محكم كتابه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة، صلى الله عليه بها عشراً }.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم قُدهم إليك، ووجه شبابهم، وكفر عنهم السيئات واهدهم شبابهم لما تحبه وترضاه، وردهم إليك رداً جميلاً، عرفهم بالقرآن وحببهم إليه، واجعلهم من حملته وأبعدهم عن كل ما يغضبك من دسائس الشيطان، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنةٍ مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء لا إله إلا الله، اللهم ثبت أقدام كل من رفع لا إله إلا الله، اللهم انصر من نصر لا إله إلا الله، اللهم انصر المجاهدين المسلمين في أفغانستان ، وفي فلسطين وفي كل بلادٍ من بلادك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمام المسلمين لما تحبه وما ترضاه، اللهم ألهمه رشده، وخذ بيده إلى كل خير، وارزقه بطانةً صالحة تدله على الخير، وتهديه إلى الصواب، إنك على كل شيءٍ قدير، ربنا إننا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عائض القرنى