فوضعت المكتل بين يديه، وقلت: سمعت أنكم غرباء قدمتم؛ فخذوا هذا التمر صدقة، قال: فأمسك صلى الله عليه وسلم ولم يأكل، وقال لأصحابه: كلوا بسم الله، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، قال: ثم عدت إلى النخل فلما أتت الليلة المقبلة، حملت مكتلاً آخر، وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوضعته بين يديه، وقلت: هذه هدية، فقال: بسم الله وأكل، فقلت: هذه الثانية.
قال: ومشيت وراءه فأخذ يلمحني بعينيه صلى الله عليه وسلم، وعلم أنني أريد أن أرى خاتم النبوة بين كتفيه؛ فرفع رداءه صلى الله عليه وسلم فرأيت خاتم النبوة بين كتفيه، فانحنيت عليه أبكي وأقبله، قال: فهداني الله وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأعتقني صلى الله عليه وسلم.
وسار سلمان في طريق الهداية، وتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتاج: {سلمان منا آل البيت } فهو من أهل البيت نسباً في التقوى، وسلالة عريقة في النجابة والنبل والجهاد، وهو من أهل البيت في العبادة والطهارة والنزاهة، ولذلك كان من أصدق الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيجب علينا أن نتأسى به في طلب الهداية، والذي يحرص على الهداية ويلتمسها ويدعو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبلغه سبل الهداية يجدها، ويوفقه الله لها، ويعطيه الله عز وجل ما تمنى، والذي يعرض عن الهداية، ولا يحرص عليها، ولا يريدها، يطبع الله على قلبه، ويسيء ذكره، ويجعل الشيطان يستحوذ عليه، قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5] ويقول عز من قائل: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23].
فيا من يريد الهداية التمسها تجدها، فإن الهداية لا تتعلق بنسب ولا بمنصب ولا بولد ولا بمال ولا بجاه، ولكن الله ينظر إلى قلوب العباد، فإذا رأى قلباً يستحق الهداية أعطاه وأولاه واجتباه واصطفاه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
الطفيل بن عمرو الدوسي وقصة إسلامه
ورجل آخر، ورائد ثان من رواد الحقيقة ومن الباحثين عن النور، الطفيل بن عمرو الدوسي ، كان يعيش في جبال السراة ، لا يعلم أن هناك رسولاً، ولا كتاباً، ولا إلهاً، فلما أراد الله أن يهديه ويهدي قومه به، قدم مكة من السراة من جبال زهران في دوس قدم في التجارة؛ فرآه كفار قريش، فعلموا أنه سيد شريف لبيب، فخافوا عليه من الإسلام، فأتوا إليه وتجمعوا عليه، وقالوا: يا طفيل ! أنت سيد في قومك، ومعنا هنا رجل كاهن ساحر، إذا سمعت كلامه فرق بينك وبين زوجتك، وبينك وبين أولادك، قال: فو الله ما زالوا يخوفونني به حتى جعلت القطن في أذني لئلا أسمع شيئاً.
قال: فكنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يصلي في الحرم، وأرى علامات الصدق في وجهه، قال: فاقتربت منه -انظر إلى هداية الله كيف تقرب البعيد, وانظر إلى الشقاء كيف يبعد القريب- قال: فما زلت أتقرب منه، وقلت لنفسي: عجباً لي! أنا رجلٌ لبيبٌ وشاعر لا يخفى علي حسن الكلام من قبيحه، قال: فما زالت نفسي تحدثني حتى وضعت القطن من أذني، فاستمعت إليه وهو يقرأ القرآن، فوقع القرآن في قلبي، قال: فسلمت عليه؛ فرد عليه السلام، فأخبرته الخبر، وقلت: ما الذي تدعو إليه؟ فأخبرني صلى الله عليه وسلم بالإسلام، فوقع حب الإسلام في قلبي، وهذه عناية الله واصطفاؤه، فقلت: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال: {ممن الرجل؟ قلت: من دوس، فتبسم صلى الله عليه وسلم } لأن دوساً تبعد الكيلو مترات عن مكة فيهدي الله منهم هذا الرجل وأهل البيت كفرة بالله العظيم، يعبدون الحجارة من دون الله، فقلت: يا رسو الله! ادع الله أن يجعل لي آية وعلامة وكرامة أدعو قومي بها، فقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم اجعل له آية } قال: فذهبت فلما انحدرت على قومي -في بلاد زهران - وإذا بالنور في وجهي أصبح مد البصر، فقلت: اللهم اجعله في غير وجهي، فإني أخاف أن يقول قومي: هذه مثلة أو مرض، فجعله الله في عصاي؛ فكان كالقنديل، فلما وصلت إليهم، أقبل أبي ودنا مني، فقلت: أنت مني حرام، وأنا منك حرام حتى تؤمن بديني، قال: وما هو دينك؟ فأخبرته، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قال: ودنت مني صاحبتي، فقلت لها مثل ما قلت لأبي، فشهدت أن لا إله إلا الله، ثم خرجت على قومي؛ فأخبرتهم الخبر فكفروا وأعرضوا، وعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! غلب الزنا على دوس، فادع الله عليهم، قال: فرفع يديه واستقبل القبلة، فقلت في نفسي: هلكت دوس، فقال صلى الله عليه وسلم: {اللهم اهد دوساً وأت بهم، اللهم اهد دوساً وأت بهم، اللهم اهد دوساً وأت بهم }.. لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
قال: فعدت إليهم، فآمنوا كلهم عن بكرة أبيهم، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقدمت بهم إلى رسول الله.
وبقي الباحث عن الحقيقة الطفيل بن عمرو الذي هداه الله إلى لا إله إلا الله وافياً مجاهداً عابداً، ناصراً لكلمة الحق، حتى أتت معركة اليمامة مع مسيلمة الكذاب الدجال، وقبل أن تصبح صباح المعركة نام الطفيل بن عمرو ؛ فرأى في نومه كأن رأسه حُلق، وكأن طائراً خرج من فمه، وكأن امرأة أدخلته في فرجها، وكأن ولده يجري وراءه فلم يدركه -رؤيا في المنام- فأولها في الصباح، فقال: أما الطائر فروحي تخرج من فمي، وأما حلق رأسي فيقطع رأسي في سبيل الله، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تبتلعني فيها، وأما ابني الذي يجري بعدي فهو يطلب الشهادة ولا يوفق بها في هذه المعركة.